منذ فترة طويلة يراودني عمل دراسة لسوق العملات السوداء في اليمن بشكل عام بغية فهم تحركاتها التي لا تلتزم بقواعد التعاملات المالية المعروفة وكيف يؤثر الفراغ السياسي والرقابي على سوق العملات الصعبة واختلاطها مع الهدف العام لكل تجارة وهي الربح.

ولملاحظتي بإن عدد محلات الصرافة في مدينتي (عتق- شبوة) قد ازداد بشكل كبير جداً في الآونة الاخيرة بشكل غير طبيعي، وان العمل الرئيسي لها هو بيع وشراء العملات فقط لا غير (لا حوالات، لا حسابات، لا تسهيل خدمات مالية، لا شيء) كدليل على ربحية هذه التجارة “الحديثة”.

ولعدم وجود بيانات دقيقة لكل محافظة او اي بيانات بهذا الصدد إذا أردنا التكلم بصراحة (وهذا أحد اسباب قيامي بهذا الشيء) مما يدفع بعض الصحفيين والباحثين لاستعمال بيانات البنك المركزي او المدن الكبرى التي تكون مختلفة بشكل كبير نسبياً عن الاسعار المحلية لكل منطقة.

فلهذا قمت بهذا التحليل البسيط للسوق المحلية للمدينة التي اسكن فيها (عتق-شبوة) للعام الفائت 2019 مع بعض المؤشرات الجديرة بالذكر وايضا كوسيلة للقيام بدوري بتوفير البيانات المحلية الدقيقة لكل باحث او صحفي او محلل مالي مهتم بالموضع إضافة لحبي للثقافة البحثية بشكل عام.

ملاحظات قبل البدء:
– هناك فرق في اسعار العملات بين محل و اَخر وتم الاخذ بسعر اعلى متجر
– الاسعار تتغير بشكل يجعل المحل ينشر عدة اسعار في اليوم وقد تم الاخذ بآخر سعر في اليوم
– يقوم البنك المركزي احياناً (كعقاب) بمنع المحلات من تداول العملات لذلك يتم الاخذ بسعر اليوم السابق
– وبعد التوضيح نبدأ:
نلاحظ ان العملات الاهم في سوق محافظة شبوة هي على الترتيب:
الريال السعودي, الدولار, والدرهم الامارتي
وقد دخلوا سنة 2019 وهم على الاسعار التالية:
السعودي: شراء 140, بيع 141
الدولار : شراء 530, بيع 537
الاماراتي: شراء 141, بيع 144
وخرجوا على الاسعار التالية:
السعودي: شراء 160, بيع 160.5
الدولار: شراء 608, بيع 611
الامارتي: شراء 162, بيع 164.5

وأكثر عملة تداولاً هي الريال السعودي لوفرته في السوق (مغتربين + النخبة الشبوانية) لذلك تقلباته طفيفة قليلاً يليها الدولار وهو الأكثر تقلباً ثم الدرهم وتقلباته قليلة.

وقد وضح بعض الصرافين الذين قابلتهم انهم يتلقون طلبات شراء عملات صعبة من عدن والمكلا وحتى مارب لتوفرها في السوق الشبواني ولعدم وجود حركة تجارية دولية كبيرة في المحافظة، وللمضاربة الشديدة بها واعتماد سعرها على كمية العرض والطلب يجعل سعرها مختلف نسبياً عن المدن الجنوبية الكبرى.ونلاحظ ان بدية العام كانت متأرجحة بسبب التقلبات العنيفة للعام قبل الماضي 2018 التي خلقت شعور بعدم الثقة (وهو الاساس في كل التعاملات المالية) بين الصرافين والبنك المركزي والنقابات مما جعل الاسعار تعتمد على تكهنات واشاعات وغلب امساك العملة الصعبة ورفع السعر على تعاملات الصرافين.

ونلاحظ الفرق الشاسع بين اسعار الشراء والبيع في بعض الايام كمحاولة لامساك العملة الصعبة ولغياب اي مؤشر على احتواء الازمة في القريب العاجل، وايضاً نلاحظ تأثير الاشاعات على الاسعار بالهبوط والعودة بشكل سريع في بعض الأيام، الامر الذي يثير الشك وسوف نتطرق اليه لاحقاً.

وعلى عادة الحكومة اليمنية يأتي خبر تغيير محافظ البنك المركزي فجاءة (من محمد زمام الذي واجه انتقادات لاذعة وتهم فساد الى حافظ معياد) ويأتي بعده بفترة وجيزة خبر توقيع صندوق النقد السعودي والتحالف العربي اتفاقية توريد مبالغها الى البنك وصرفها للجنود بالريال اليمني.

الامر الذي جعل الصرف يهبط الى أدني مستوياته للعام 2019، وتوافق ذلك مع حملة رقابة ومعاقبة للصرافين المخالفين الامر الذي ادى الى امتناع بعضهم عن بيع العملات الصعبة والاكتفاء بشرائها فقط، وهذا يظهر فاعلية الدمج بين التعديلات في السياسة المالية للدولة والحملات الرقابية (الجادة).

فكم هي الاصوات المدعية لصعوبة الرقابة والتحكم بسعر العملة؟
فاذاً ما الذي يحدث في مناطق سيطرة جماعة الحوثي منذ فترة؟
اليس هذا اثباتاً كافياً لإمكانية فرضية تثبيت العملة (حتى وان كانوا يقومون به بسبب عجز في السيولة وبطريقة متخلفة ومدمرة للاقتصاد والشعب على عكس ما يزعمون).

ولماذا لا يمكن القيام بالمثل بكل الامكانيات المتوفرة في المناطق المحررة، وبكميات العملة الصعبة المتوفرة في الاسواق التي تزيد بشكل كبير عن مناطق الحوثي (صادرات نفط متواضعة، مرتبات احزمة ونخب، حوالات خارجية) وهل يقل الاقتصاد اهمية عن اي تبة او جبل في محافظة من محافظات الصراع؟

ولكن كما يصفها المثل العربي الشهير (ويا فرحة ما تمت) فما ان يأتي شهر رمضان المبارك حتى يبدأ الصرف بالصعود كسنجاب صغير يتسلق اعلى شجرة طلباً للجوز اللذيذ ولا يلتفت خلفه الا ليتأكد انه ليس مطارداً من قبل اي مفترس ثم يكمل التسلق بخطوات صغيرة وسريعة.

فالثقة بالمركزي قد تلاشت وحملات التثبيت غير جادة، وهذا ما اثبتته الفترة الحالية من العام 2020 فلا اعلان اثر في الصرف كمستويات 2019 ولا حملات قمع من المركزي اثنتهم عن المضاربة بالعملة الى اعلى مستوى ممكن، وكما وصف احد الصرافين حملات البنك ب (يدوروا لهم قرشين و با يسرحوا لهم).

وإذا بشهر اكتوبر يأتي بالأمر الذي جال في عقلي وعقل الكثيرين لفترة طويلة، فقد هبط الصرف فيه الى مستويات ملحوظة بشكل سريع حتى نهاية شهر نوفمبر ليصعد بعدها كأن شيء لم يكن ويخترق حاجز الـ 600 ريال للدولار والـ 160 ريال للسعودي للمرة الثالثة للعام 2019.

فالتلاعب بالأسواق امر ليس ببعيد على بلد قد تلاعب فيه بكل شيء تقريباً وقد طبقت انواع من هذه الالاعيب على اقتصادات اكبر من اليمن بكثير (نايجل فاراج و انتخابات خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي كمثال حديث على ما ذكرناه) فما بالك “بإشاعة” مختلقة ونزول اسعار “مفتعل” ببلد كاليمن؟

فآخر اعلان للمصارفة من بنك عدن المركزي كان في سبتمبر 2019 ولم ينزل الصرف حيناها بل لم ينزل في المرتين السابقتين حتى ولم يتم الاتفاق على اي شيء جديد مع التحالف العربي، فنزول الصرف بهذه الطريقة شيء يدعوا للريبة بل لم يستطع بعض الصرافين الاجابة عن سؤال “لماذا هبط الصرف”.

وبما ان الصرافين الصغار في المحافظات غالباً ما يتبعون اسعار صرف المدن الكبرى (بحكم بيعهم لعملاتهم الصعبة هناك) فأن مصدر الاشاعات مهما كان محتواها هو بالتأكيد هناك، فالشركات الكبرى هي القوة الغير رسمية في تحديد اسعار الصرف في اليمن وهم الذين يمتلكون القدرة على التأثير فيها.

وإذا كانت محلات الصرافة الصغيرة في مدينة مثل عتق مجتمعة في (مجموعة وتساب) لتوحيد سعر الصرف فيما بينهم ومواجهة التغيرات بشكل موحد، فما بالك بشركات تتداول الملايين بشكل يومي واي قوة سيشكلها اتحادهم في “اختلاق” ازمات واشاعات كفيلة بجعل الاسعار كأسنان “الشوكة A Fork” كما تسمى.

وبدل الاكتفاء بدحر الاشاعات على صفحات البنك بمواقع التواصل الا يجب تشكيل لجنة لمكافحة التلاعب بالأسعار؟
وتحقيق بسيط بالسجلات المالية للشركات الكبرى قبل وبعد كل تحركات غير مفهومة بالأسعار كفيل بإعطاء الدليل القاطع على التورط بالتلاعب وتنفير الباقيين من الانخراط بالمثل.

وفي الاخير نذكر بأن الشيء المشترك في كل الحروب هو (اهمية الاقتصاد) فهو الذي يحدد من يخسر اليوم ومن يستطيع القتال ليوم إضافي، وفي اليمن يحدد كم مليشيات سوف تتكون وكم نكسات عسكرية سوف تحصل وكم مظاهرات سوف يتم استغلالها لأهداف سياسية وكم مؤسسات حيوية سوف تنهار وكم طفل سوف يموت.

ولأننا جيل الحلول ولسنا جيل المصائب، فنحب ان ننبه على محاولات لم تدرس من قبل الحكومة في سبيل تثبيت العملة، كتسليم الحوالات الخارجية بشكل عام بالريال اليمني كما تفعل دولة الامارات، او تصميم آلية مع المملكة لتحويل الريال السعودي الفائض لدينا في السوق الى الدولار الفائض لديهم.

  • المصدر|تفاصيل -خاص

هذا التحليل عبارة عن سلسلة تغريدات من حساب الناشط في المجال الانساني محمد جودت في تويتر

مسارات الحرب في اليمن مسارات الحرب في اليمن مسارات الحرب في اليمن مسارات الحرب في اليمن مسارات الحرب في اليمن مسارات الحرب في اليمن مسارات الحرب في اليمن