دخل أفلاطون في السياسة والحُبِّ، وكم مِن فيلسوف كتب بعنوان «المدينة الفاضلة»، نسخةً مِن «جمهوريّة أفلاطون»، جمهورية كانت أو مدينة يُديرها الفلاسفة، نموذج لأنظمة الأماني، يتمناها التعساء لتجاوز واقعهم المرير، عَبرَ أفلاطون عن حلمٍ في العدالة المطلقة، وكذلك في ماعُرف بالحُبِّ الأفلاطوني، العذري عند العرب، ومثاله جميل وبثينة.
بما تقدم ندخل إلى الكتاب الجديد لكنعان مكية «في القسوة»(منشورات الجمل 2020)، وهو غير «القسوة والصَّمت»، الذي كشف صمت مثقفين ثوريين كبار- هكذا يصفهم مريدوهم- عن القسوة التي كان يُعمل بها النِّظام السَّابق شعبه، وكانت مفاجأة أن أحدهم، وكان أفلاطوني بثوريته، قد مزق بيان الاحتجاج على ضربات غاز الخردل، وما عُرف حينها بـ«الأنفال»، وراح ضحيتها عشرات الآلاف.
كانت تلك الحادثة عُذراً لكنعان مكية في تأليف «القسوة والصَّمت»، ولعلَّ المؤلف نفسه أول مَن لفت أنظار العالم إلى القسوة الجامحة عبر كتابه «جمهوريّة الخوف»(1989)؛ وما جاء في «القسوة والصَّمت»(1993) كان رداً على مَن يَحسب النِّظام سُنياً، ففي قصة الضحية عمر، كان المخبر ضده كردياً والجلاد شيعياً، والضّحية سنياً، فالقسوة كانت «تمس الجماعات كلها».
مِن تلك الأيام، وفي مواجهة «جمهوريّة الخوف»، بدأ «مكية» التثقيف بـ«جمهورية التَّسامح»، والبداية بميثاق «1991»، ودخل المعارضة برُوحيّة أفلاطونيّة، لكنه بعد سقوط «جمهورية الخوف»، وجد العراق جمهوريات خوفٍ، وبأيدي مَن كتب لهم «جمهورية الخوف» و«القسوة والصَّمت» أنفسهم.
كان «كنعان» مثقفاً حالماً، أكثر منه سياسياً واقعياً، اعتقد يومها أن العراق سيكون كألمانيا بعد النّازيّة، واليابان بعد العسكراتية، وإذا يُفاجئ بواقع آخر، لم يستطع التّجانس معه، فراح يكتب ضياع حلمه الأفلاطوني في «الفتنة»(2016)، فقد هاله مشهد الإعدام لرئيس النّظام، ونقل الجثمان إلى المنطقة الخضراء للتشفي، وبصفاقة مَن أخذ حبل المشنقة، وجعله مِن أثاث بيته، دليلاً على بطولته بأنه نفذ الإعدام!
عبر كنعان مكية عمَّا جرى بعبارة «القسوة تمس دواخلنا»، وبعد انتظار تحقيق حلمه في «جمهورية التسامح»(بعد 2003) يؤكد الاعتراف «بأننا أمام حالة تمدن عراقيّة مجهضة أو مشوهة، إذا كان رفض القسوة في الماضي قد مهد الطَّريق أمام التَّفرد في التَّجربة الأوروبيَّة، ومِن هذا الباب دخلت المواطنة الحديثة، فإن العكس تماماً هو الذي حدث في العِراق»(في القسوة).
يُنزل «كنعان مكية» غضبه على أفلاطون، بما معنى أنه كذب على البشرية بجمهوريته، فيقول: «نحن كلنا، شئنا أم أبينا، المبدئي فينا والانتهازي، سواء عرفنا مَن هو أفلاطون أم لا، كلنا أبناء أفلاطون، أتباع جمهوريته المثاليّة(غير الفاضلة/التعبير لمكية)، والتي يحكمها رجال الدِّين بإيران اليوم، أو التي كان يحكمها الحزب الواحد والرَّئيس الأوحد صدام حسين في العراق حتى سقوطه».
غير أنَّ جمهورية أفلاطون المثالية لا تسمح بفن الضحك، لأن ذلك ضد رقي العقل، والنتيجة التي يتوصل إليها أن أفلاطون نفسه «خلق جمهوريّة لا يُطيق حتى هو العيش فيها، كما لا يُطيق المواطن العربي اليوم العيش في ظل حكم شمولي، أو ديني يمنع الضحك أو الرَّقص أو رسم الأجساد».
استفاد الشموليون والإسلاميون مِن فكرة أفلاطون، وهو محاولة خلق الإنسان الطيّع بالتي هي أحسن، لكن القسوة تظهر مرعبة في حال فشل «التي هي أحسن»! حسب كاتب «فن القسوة»، كان هدف أفلاطون في جمهوريته إلى «العدالة النَّقيّة» ليحافظ «على سمعته مدى التَّاريخ»، بمعنى أنه سخر منا في مثاليته، التي صارت عنواناً لكلِّ نقاء، لا وجود له، بل اقتبست منه أفكار وعقائد، ظل البشر واهمين بظهورها في يومٍ مِن الأيام.
يكتب كنعان مكيّة تجربته الشَّخصيَّة المؤلمة في المعارضة، والنَّتيجة المريعة التي أسفر عنها الوضع العراقي. نجده مِن القلائل الذين كتبوا بجرأة عن الخيبة في المثال الأفلاطوني الذي كان مزهواً به، في ابدال «جمهورية الخوف» بـ«جمهورية التَّسامح»، وإذا بالإسلاميين يطبقون جمهويتهم (الفاضلة)، حيث العنف الدِّيني لتحقيق نيابة الإمام عبر اللادولة، وقد خدعونا بأفلاطونيتهم الدِّينية، والقول لأبي نواس(198هجرية): «نوائب يعجزُ الأُدباءُ عنها/ويعيا دونها اللِّقنُ النَّطاسي»(الدِّيوان)، هذا والنَّطاسي العالِم في مجاله.
* نقلا عن “الاتحاد”